نمو إسبانيا الاقتصادي- تحديات وفرص في ظل تقلبات عالمية

المؤلف: د. محمد الروين09.16.2025
نمو إسبانيا الاقتصادي- تحديات وفرص في ظل تقلبات عالمية

على الرغم من الأوضاع الصعبة والتحديات الجيوسياسية المعقدة، تمكنت إسبانيا من تحقيق تقدم ملحوظ على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، متجاوزة بذلك المتوسط العام لدول الاتحاد الأوروبي. ويعزو الخبراء الاقتصاديون هذا التفوق إلى عوامل عدة، في مقدمتها انخفاض معدلات الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي، وتراجع مستويات التضخم، بالإضافة إلى تعزيز ثقة المواطنين بمؤسساتهم السياسية والاقتصادية، وارتفاع معدلات الادخار لديهم.

إسبانيا تحقق معدلات نمو اقتصادية عالية

تستهل إسبانيا العام الجديد بتوقعات إيجابية، إذ يُنظر إليها كواحدة من أقوى الاقتصادات وأكثرها تطورًا على مستوى العالم، وهو ما تؤكده الأرقام والبيانات المتاحة. فقد حدد البنك المركزي الإسباني نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2025 بنحو 2.5%، وهو معدل يفوق بنحو ثلاثة أعشار النسبة المتوقعة للولايات المتحدة الأمريكية، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي. وهذا ما يضع إسبانيا في موقع المنافسة القوية مع الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، تتجاوز هذه النسبة المقدرة الـ 1.8%، وهي النسبة التي سبق وأن أشارت إليها المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، السيدة كريستالينا غورغييفا، باعتبارها متوسط النمو لمجموعة الدول الغربية.

وعلى الرغم من ذلك، تحتل إسبانيا مواقع متقدمة اقتصاديًا مقارنة ببقية دول منطقة اليورو، إلا أنها لا تزال متأخرة نسبيًا في القدرات الإنتاجية على مستوى دول الاتحاد الأوروبي.

في المقابل، شهد الاقتصادان الفرنسي والألماني، اللذان يعتبران تاريخيًا من أقوى الاقتصادات الأوروبية، تراجعًا ملحوظًا نتيجة لتداعيات الحرب في أوكرانيا وارتفاع وتيرة التضخم.

أما ألمانيا، التي تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي بعد اقتراح إسقاط الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة في 23 فبراير 2025، يشهد اقتصادها حالة من الركود خلال الأشهر القليلة الماضية. وتشير توقعات البنك الفيدرالي الألماني (البندسبنك الألماني) إلى نسبة نمو متواضعة تبلغ 0.2% لسنة 2025.

وبالنسبة لفرنسا، التي شهدت في عام 2024 تولي أربعة رؤساء للحكومة، مما كاد أن يدخل البلاد في أزمة سياسية حقيقية تهدد المبادئ والأسس التي قامت عليها الجمهورية الخامسة، تشير التوقعات إلى نمو اقتصادي بنسبة 0.8%، وذلك نتيجة لتأثير الإجراءات الضريبية التي تضررت بها توازنات الميزانية، وفقًا لتقارير المفوضية الأوروبية.

إجمالاً، يعتبر الاقتصاد الإسباني الأكثر نموًا على مستوى دول الاتحاد الأوروبي سواء في عامي 2023 أو 2024. وخلال الأشهر الثلاثة الماضية من عام 2024، سجل الناتج المحلي الإسباني نموًا يفوق أربعة أضعاف متوسط النمو في دول الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تستمر إسبانيا في هذا المسار التصاعدي خلال عام 2025.

وفي هذا الصدد، يرى صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية أن نسبة النمو في إسبانيا تتفوق على نسبة النمو الأوروبية بنقطة كاملة مقابل 1.3% لبقية دول المجموعة الأوروبية. وتذهب بعض المؤسسات الأخرى إلى تقدير الفارق بين الطرفين بأكثر من 1.3%، وفقًا لتأكيدات البنك المركزي الإسباني.

وفي سياق متصل، يؤكد السيد خوسيه لويس إسكريفا، محافظ البنك المركزي الإسباني، أن الاستهلاك المحلي يلعب دورًا جوهريًا في النشاط الاقتصادي، بالإضافة إلى ارتفاع مستويات الدخل، ومعدلات التوظيف في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي، وتعزيز ثقة المواطنين في الظروف الاقتصادية والسياسية المحيطة بهم.

من جانبها، تؤكد المؤسسة الاقتصادية "كايشا بنك" الإسبانية أن انخفاض أسعار الفائدة للبنك المركزي الأوروبي، المسؤول عن تنسيق السياسات المالية لدول الاتحاد الأوروبي، وتراجع مستويات التضخم، وارتفاع إمكانات الادخار، وزيادة الحد الأدنى للدخل في مواجهة ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك، كلها عوامل ساهمت في رفع مستويات الاستهلاك واستعادة القدرة الشرائية التي تضررت جراء الأزمات السابقة التي عصفت بإسبانيا في سياق الأزمة الاقتصادية المرتبطة بجائحة كوفيد-19.

معوقات وتحديات

إلا أن هذه الأرقام المتفائلة تخفي وراءها جملة من المتغيرات التي قد تلقي بظلال من الشك على قدرة الاقتصاد الإسباني على الصمود والمحافظة على توازناته "الماكرو-اقتصادية" خلال الأشهر القادمة. وقد يتطلب ذلك تدخلًا للحفاظ على نسبة النمو المتصاعدة للناتج المحلي الإجمالي، الذي يعاني من مشكلة مرتبطة بقدراته الإنتاجية المتعلقة بالاستثمار، أي وجود عجز ملحوظ على مستوى العائدات الاستثمارية.

وهو الأمر الذي ينبئ بتأخر العودة إلى المستويات الإنتاجية السابقة. وقد دفع ذلك صندوق النقد الدولي إلى دعوة إسبانيا إلى إجراء إصلاحات هيكلية تمكن الشركات الإسبانية من رفع مستويات النمو، وزيادة معدلات الاستثمار خارج الحدود الإسبانية، وفي مجالات ذات قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الإسباني.

وهذا يفسر أيضًا سعي إسبانيا الحثيث للحصول على دعم من الصناديق الأوروبية، على الرغم من أن الموضوع يتطلب تضافر جهود دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، أي أننا أمام مسعى يصعب على الدول الأوروبية تحقيقه بشكل منفرد.

كما يشير البنك الإسباني إلى أن الطلب الخارجي في تراجع مستمر، وهو ما من شأنه التأثير سلبًا على مستويات النمو خلال سنة 2025، حيث لعب دورًا حيويًا في دينامية النمو في السنوات السابقة، وخاصة في عام 2023.

ومن المتوقع أن يستمر هذا التراجع بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُتوقع أن يفرض سياسة جمركية صارمة على واردات القارة الأوروبية، في ظل سياق جيوسياسي معقد تتسم بملامح الحرب في أوكرانيا ومجمل الاضطرابات التي يشهدها العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط.

إلى جانب حالة عدم الاستقرار الحكومي والسياسي التي تشهدها أقوى الاقتصادات الأوروبية، فرنسا وألمانيا، والتي تعاني من مستويات مرتفعة من التضخم، وهو ما سينعكس سلبًا على الاقتصاد الإسباني، حسب خلاصات قسم التحليلات الاقتصادية للبنك المركزي الإسباني.

ويمكن التأكيد أن سنة 2025 هي السنة الأكثر تأثيرًا على الاقتصاد الإسباني من قبل الصناديق الأوروبية التي تراهن عليها الحكومة الإسبانية، على الرغم من التجاذبات السياسية بين اليمين واليمين المتطرف من جهة، واليسار من جهة أخرى، حيث تتوقع الحكومة الإسبانية أن تصل تأثيرات هذه الصناديق إلى ثلاث نقاط مئوية على الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2025، وأن 1.7 نقطة هي نتيجة الإصلاحات التي تم القيام بها خلال السنوات السابقة في هذا الإطار.

وتتوقع الحكومة الإسبانية أيضًا أن يتم خلق 368،000 فرصة عمل جديدة بين شهري يناير وديسمبر من العام الجاري، وذلك بفضل تطور النشاط الاقتصادي الناتج عن الدعم المالي الأوروبي.

كما أنه من المتوقع أيضًا أن تساهم الصناديق المالية الأوروبية بنسبة 1.3 نقطة في الناتج المحلي الإجمالي الإسباني، وفقًا لبيانات وزارة الاقتصاد الإسبانية.

لقد ودعنا عام 2024 واستقبلنا العام الجديد 2025، دون أن تتمكن الحكومة من تأمين الأصوات اللازمة لتمرير قانون المالية لسنة 2025، وذلك بسبب حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي تشهدها إسبانيا في السنوات الأخيرة بين اليمين واليسار.

وقد أدى ذلك دستوريًا إلى تمديد العمل بقانون المالية للسنة الماضية، أي سنة 2024، والتي تعتبر بدورها امتدادًا لقانون المالية لسنة 2023، بعد تعذر المصادقة على قانون المالية بفعل الانتخابات الجهوية التي شهدتها منطقة كتالونيا.

كل ذلك دفع مجلس الوزراء الإسباني إلى التوافق على مرسوم قانون في 23 ديسمبر الماضي، لتمرير مجموعة من المقتضيات القانونية ذات الأثر الاجتماعي البالغ على المواطن الإسباني.

وهي إمكانية دستورية يكفلها الدستور الإسباني، المعروف بدستور التحول الديمقراطي لسنة 1978، في حالة تعطيل المصادقة على قانون المالية.

إلا أن مرسوم القانون هذا أُسقط في الكورتيس الإسباني يوم الأربعاء 22 يناير 2025، بسبب تحالف أصوات اليمين (الحزب الشعبي وخونتوس الكتالوني)، واليمين المتطرف المتمثل في حزب فوكس داخل الكورتيس.

وذلك على الرغم من أن المرسوم كان يهدف إلى رفع أجر المتقاعدين بنسبة 2.8% ابتداءً من 1 يناير 2025، ودعم الإمكانات الاستثمارية والمالية للحكومات الإقليمية والمحلية، بالإضافة إلى الحصول على المزيد من الدعم الأوروبي للاقتصاد الإسباني، وخاصة في الشق المتعلق بالفئات الهشة وضحايا فيضانات فالنسيا التي ضربت البلاد مؤخرًا.

بالإضافة إلى ذلك، كان المرسوم يقترح رفع نسبة الضريبة على البنوك وأصحاب الدخول العالية وشركات التدخين، وتخفيض الضريبة على الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر القلب النابض للاقتصاد الإسباني.

ويبقى السؤال المطروح بشدة هو: هل يستطيع الاقتصاد الإسباني تجاوز مجمل هذه العقبات من أجل الفوز برهان المستقبل في ظل اقتصاد عالمي متقلب، ويصعب التحكم في تفاصيله والتنبؤ بمآلاته؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة